ما أسرع نقل أخبار الوفاة أو الانتحار في وسائل إعلامنا المحلية، وما أصعب الكشف عن محاولات الانتحار والسعي لمنعها... صحيح أنّ دور وسائل الاعلام المكتوبة والمرئية والمسموعة أن تنقل الأخبار، لكن الأفضل لو استطعنا نقل رسائل الأهل الذين فقدوا أعزاءهم بجرةِ فكرة لمعت في ذهنِ شخصٍ قرر الابتعاد إلى الأبد.
اليابان الأول واسرائيل 17 في نسبة الانتحار |
|
تحتل اسرائيل المرتبة أل 17 من حيث نسبة الانتحار بينما تستقر اليابان في المرتبة الأولى عالميًا، بلغت حالات نسبة الانتحار في العام الماضي 33 ألف و93 حالة.
بينما تبرز أخطر الدلالات المتعلقة بالمجتمع العربي والتي تشير إلى أن أكثر من 78 % ممن يقدمون على الانتحار تنحصر أعمارهم ما بين 17 و40 عاما، كما دلت الإحصائيات على أنّ نسبة المنتحرين من الرجال تفوق نسبتهم من النساء، والمفارقة أنّ النساء لديهن محاولات انتحار تتخطى نسبة محاولات الرجال بكثير.
ولمعرفة أسباب هذا القرار ومحاولة الحد من هذه الظاهرة نستعرض فيما يلي ما استقر عليه رأي الباحثين والأطباء النفسيين بهذا الصدد:
الانتحار في المجتمع العربي في البلاد
يؤكد الدكتور كمال فرحات، مدير قسم الأمراض النفسية في مستشفى الناصرة "أنّ تنفيذ الانتحار يسير بخطٍ متوازٍ مع المحاولة، فمحاولات الانتحار في مجتمعنا كثيرة، ولا يمكن تقديم احصائيات أو نظريات بهذا الصدد، لأنّ معظم هذه المحاولات يتم التستر عليها داخل البيوت العربية. ولا يكشف إلا عن الحالات القليلة التي يستعصى علاجها في البيت، أو التي ولحسن الحظ نجا فيها المنتحر من موتٍ أكيد.
ولم يترك المحاولون وسيلة انتحار إلا وجربوا تنفيذها بدءًا بتعاطي الكحول أو الأدوية أو السموم أو قطع الأوردة الدموية أو القتل.
وهناك عدة عوامل قد تدفع بالشخص إلى الانتحار من بينها:
نتيجة العدوى – فتجربة انتحار ناجحة قد تشجّع اناساً مترددين على تنفيذ مرامهم.
تماثل مع الشخص المنتحر - خاصة إذا كانت العلاقة قوية بين الذي انتحر وبين الذي يريد أن يلحق بِه.
تقلبات الطقس - فالانتحار يزيد في موسمي الربيع والخريف وهذا الأمر مرتبط بإفراز مادة الأدرنالين والتي قد تؤثر لدى أشخاص معينين فيصابون بما يسمى "الكآبة الموسمية".
وجميع الاحتمالات ممكنة وقد تجتمع في الشخص الذي يسعى إلى تنفيذ مخططه. وهُنا لا بُدّ من الإشارة إلا أن التفكير بالانتحار لا يأتي بين ليلةٍ وضحاها، فقد يتوصل الشخص إلى قراره بعد يومين، أو اسبوعين أو حتى أشهر، والأمر منوط بمدى استقرار رأيه على الانتحار. |
|
ويعتبر الدكتور فرحات أنّ القصة المرتبطة بالانتحار تتعدى النظرية الواحدة، فهي تجمع بين العوامل السلوكية والاجتماعية والبيولوجية بل والسياسية.
متى تجتاح الشخص موجة الانتحار؟!
يعتقد الدكتور فرحات أنّ الفكرة تأتي كمحاولة لما يلي:
معاقبة الأهل فيرفع المقدم على الانتحار شعارًا داخليًا يقول: "سوف تدفعون ثمن تصرفكم". وبين التفكير والفانتازيا هناك مسافة صغيرة جدًا بين الحياة والموت.
التخلص من ضغوطات الأهل أو المحيطين بِه.
التخلص من الفشل في الامتحانات أو بعض التجارب المهنية المحبطة.
التخلص من عقاب الأهل.
التعبير عن ضياع الأمل وفقدان فرصة المساعدة من قبل الآخرين.
الانتقام لفقدان شخصٍ عزيز.
التعاطف مع مبدأ معين "كمحاربة العدو" او "انقاذ الوطن".
تجاوز العزلة (يشعر بذلك الأشخاص الذين يعيشون بمفردهم أو الأرامل)
تفجير الغضب الكبير فيختار الانتحار بدل القتل.
التخلص من الآلام.
يعتقد الدكتور كمال فرحات بضرورة اجتثاث هذه الظاهرة من مجتمعنا عبر خطط مبلورة، وفتح نافذة أمل ليبوح الشخص الذي يفكر بالانتحار بمكنونات نفسه، وليتخطى المرحلة المصيرية للتخلص من هذه الأفكار القاتلة.
ومن أجل تحديد الخطة على الآخرين التقيّد بما يلي:
يجب على الأهل الاهتمام بوضعية الأبناء وحالتهم النفسية حال وصول نبأ وفاة أحد المعارف، فمن الضرورة تجاذب أطراف الحديث وإشعار الأبناء بالرعاية والاهتمام والحب.
على الأهل تغيير نظرة الأبناء بأنّ الانتحار عمل بطولي، فتجنب طرح هذه الفكرة ينقذ الأبناء من محاولة التماثل مع المنتحر.
الحرص على مراقبة الأبناء والتخفيف من كآبتهم.
يأتي دور المدرسة مشابهاً تمامًا لدور الأهل فيجب تخصيص بعض الوقت لتقديم المساعدة للطلاب، والتقرب من التلاميذ وإشعارهم بالحب والدفء والراحة النفسية. وهنا للمستشار الاجتماعي والنفسي دورٌ كبير في تبادل الأحاديث مع الطلاب وخاصة الذين ينزعون إلى الانعزال. |
|
هناك أهمية كبيرة لطبيب العائلة، فعندما يستشعر أن مريضه يفكر بالانتحار عليه التقرب منه ومساعدته والعمل من أجل رفع معنوياته ودفعه للتمسك بالحياة.
أما المرضى الذين تصل حالتهم إلى أقصى الخطورة كمرضى "الشيزوفرينيا"(انفصام الشخصية)، فعلى الأطباء مراقبة الحالة بشكلٍ كبير وتقديم العون اللازم والدقيق.
مؤامرة تُشارك فيها وسائل الاعلام العبرية
يعتقد الكاتب أبشالوم ادرات في مقالته التي نشرت في صحيفة معاريف في شهر نيسان من العام الحالي، أن وسائل الاعلام تتجاهل أكثر من 400 حالة وفاة سنوية نتيجة للانتحار، هذا عدا عن أربعة الاف شخص يصلون إلى المستشفيات بعد محاولاتهم الفاشلة للانتحار. ويستعرض ابشالوم المبررات التي تقف وراء تجاهل ضحايا الانتحار ومن بينها:
أنّ القرار يأتي نتيجة اختيار واعٍ وعن سبقِ اصرار، ولا يمكن فهم أو حل لغزِه.
لماذا لا يفهم المنتحرون أنّ ما يفعلون ليس حلاً لمعاناتهم.
مؤامرة الخجل، انعدام رغبة العائلات في الانكشاف.
وباستثناء حالاتٍ خاصة يتم فيها الاعتناء بالعائلات التي انتحر أحد أفرادها (أثناء الخدمة العسكرية)، لا تصل أي مساعدات مادية ونفسية للعائلات التي فقدت أعزاءها نتيجة الانتحار.
ويرى ابشالوم في ختام مقالته ضرورة طرح برامج لمكافحة الانتحار، أسوةً بالدول الأوروبية، وهو يعتقد بأنّ الدولة لا تفعل المستطاع من أجل الحد من هذه الظاهرة، باستثناء العائلات التي انتحر ابناؤها أثناء العمليات العسكرية.
الانتحار في العالمين الغربي والعربي |
|
يتحدث المعالج النفسي البروفيسور اللبناني عدنان حب الله عن عدة عوامل تؤدي إلى الانتحار، فمنها ثقافة المجتمع وما تحلله لشعوبها وخيرُ مثلٍ على ذلك "بعض الديانات، ومنها البوذية، التي أصدرت في اليابان فتاوى بالانتحار طلبًا لحياةٍ أخرى، أي التناسخ، سعيًا لحياة أفضل". بينما لا يعتقد حب الله وجود رابط جيني متعلق بالانتحار، بالرغم من أنّ عارضة الأزياء الشهيرة مارغو همنغواي انتحرت برغم حالتها المادية الممتازة، وهي لحقت بجدها الذي توفي منتحرًا هو الآخر. ويتابع "لكنّ صلة الوصل هي التماهي، أي عندما يواجه الفرد صعوبات في الحياة وإذا كانت هناك سوابق في العائلة، يكون الانتحار تماهياً كوسيلة للخلاص. لدى الانسان تنازع بين حبّ البقاء ونزعة الموت في المفهوم النفسي. ترتبط نزعة الحياة بعوامل عدة من بينها نفسيّة واجتماعية ومدى استمتاعه بالحياة. عندما تشكّل هذه العوامل سدّاً، ترد فكرة الموت كوسيلة خلاص من الحياة الصعبة.
وفي حالاتٍ مستغربة يذكر البروفيسور حب الله أنّ نسبة الانتحار لدى البيض تفوق نسبته لدى السود والأمر يعود إلى أنّ علاقة المجتمعات النامية بالحياة علاقة وطيدة أكثر لأنها مرتبطة بالحاجات البدائية والضرورية كالماء والغذاء، ولا تأخذهم أفكارهم وتحليلاتهم الذهنية.
ويضيف حب الله: "نحن نعيش في مجتمع يحقق فيه المال كل الحاجات الى درجة ان بعض الشرائح المتخمة لم تعد تجد أي سبب أو هدف للبقاء، لانها اختزلت الحياة بتلبية الحاجات ليس ألا. وهذا سبب انتحار الاغنياء المباشر، أو غير المباشر، عبر إفراطهم في الشرب، او تعاطي المخدرات أو الاسراف في الطعام وغيره".
ويعرّج حب الله على العالم العربي فيلمس أنّ الدول العربية تعتبر "السعادة" مسألة نفسية، بينما يُضرب بعرض الحائط رأس ذلك الفرد الذي يشعر باكتئاب أو حزن أو غياب الأمل مما يدفعه بين ليلةٍ وضحاها إلى انتحار في ظل غيابِ جهاتٍ تفهمه وترعاه، أما القبضة الحديدية التي يسيطر بِها الحكام على شعوبهم ويحرمون الفرد من أبسط حقوقه في الحصول على قوتِ يومه ومكانٍ يستقر فيه، دافعين بِه إلى مزيدٍ من الإحباطات التي تجعله يحلم بيوم الخلاص حتى لو كان ذلك عبر الانتحار. |
|
|
|
|